قالت: نعم، فمن خلق الزرع الأول.
ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟
قالت: نعم إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى.
قال لها: فأخبريني خبرك.
فقالت: إن الله بشرني {اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً
وَمِنْ الصَّالِحِينَ}.
ويروى مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا. والله أعلم.
وروى عن مجاهد قال: قالت مريم كنت إذا خلوت حدثني وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني.
قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا.
قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكاناً قصياً.
ولادة عيسى
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً}
أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة، ببيت لحم فتمنت الموت وذلك
لأنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام
على يدها، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في
المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة فحملت بسبب
ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الحال أو لم تخلق بالكلية.
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا}
و فى تفسير ذلك قولان: أحدهما أنه جبريل وفي رواية: هو إبنها عيسى
{ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}. قيل النهر
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً
جَنِيّاً} فذكر الطعام والشراب ولهذا قال {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي
عَيْناً}.
قيل: كان جذع النخلة يابساً وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم. ويحتمل أنها
كانت نخلة، لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك، لأن ميلاده كان في زمن الشتاء وليس
ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الأمتنان {تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}
ليس شيء أجود للنفساء من التمر والرطب
{فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}.
فإن رأيت أحداً من الناس فقولى له بلسان الحال والإشارة إنى نذرت للرحمن
صوماً أي صمتاً، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ
شَيْئاً فَرِيّاً، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ
وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}
والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها قالوا {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة
ثم قالوا لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ}
وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هارون وليس في
ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها. والله
أعلم.
عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران
فقالوا: أرأيت ما تقرأون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا
وكذا؟ قال فرحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا
أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم".
عيسى يتكلم فى المهد
فلما ضاق الحال بمريم {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه
فعند ذلك قالوا : {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}
أي كيف تحيلين في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب، وهو رضيع في مهده
ولا يميز ، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والتنقص لنا
والازدراء .
فعندها {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي
نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، وَبَرّاً بِوَالِدَتِي
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ
وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}.
هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مريم، فكان أول ما تكلم به أن {قَالَ إِنِّي
عَبْدُ اللَّهِ} اعترف لربه تعالى بالعبودية وأن الله ربه فنزه جناب الله
عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله وابن أمته .
ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله:
{آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} فإن الله لا يعطي النبوة من هو
كما زعموا لعنهم الله ، كما قال تعالى {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى
مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان
قالوا إنها حملت به من زنى في زمن الحيض، لعنهم الله فبرأها الله من ذلك
وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبياً مرسلاً أحد أولي العزم الخمسة
الكبار
ثم قال: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}
أي وجعلني براً بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه إذ لا والد له سواها،
فسبحان من خلق الخليقة وبراها وأعطى كل نفس هداها
حقيقة عيسى عليه السلام
قال تعالى : {ذَلِكَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ
يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ
إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
كما قال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ
الْحَكِيمِ، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }.
فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لأنه خالق كل شيء ومالكه، وكل شيء فقير
إليه، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السماوات والأرض عبيده، هو ربهم لا إله
إلا هو ولا رب سواه
وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله
تعالى: "شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، يزعم أن لي ولداً وأنا الأحد الصمد
الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد".
ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام
قد ذكرنا أنه ولد ببيت لحم قريباً من بيت المقدس.
وذكر وهب بن منبه أنه لما خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها، وأن
الشياطين حارت في سبب ذلك حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في
حجر أمه والملائكة محدقة به، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس
أشفق من ظهوره
فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا: هذا لمولد عظيم في الأرض. فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى عيسى
فلما قدموا الشام سألهم ملكها عما أقدمهم فذكروا له ذلك، فسأل عن ذلك
الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى بن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه
في المهد فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله
إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا قيل لها إن رسل ملك
الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك. فاحتملته فذهبت به إلى مصر، فأقامت به حتى
بلغ عمره اثنتي عشرة سنة، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره
عن ابن عباس قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله، ففشا
ذلك في اليهود وترعرع عيسى، فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى
الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر،
قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه، قال: إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة
أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا قال فقدم عليه يوسف ابن خال
أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له
الإنجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام والعلم بالغيوب
مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب،
فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره